فصل: الفائدة السابعة عشرة: حقيقة الحمد وماهيته:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الفائدة الثالثة عشرة: أول كلمة ذكرها أبونا آدم هو قوله الحمد لله:

أول كلمة ذكرها أبونا آدم هو قوله الحمد لله، وآخر كلمة يذكرها أهل الجنة هو قولنا الحمد لله، أما الأول: فلأنه لما بلغ الروح إلى سرته عطس فقال {الحمد لله رب العالمين}، وأما الثاني: فهو قوله تعالى: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} [يونس: 10] ففاتحة العالم مبنية على الحمد وخاتمته مبنية على الحمد، فاجتهد حتى يكون أول أعمالك وآخرها مقرونًا بهذه الكلمة فإن الإنسان عالم صغير فيجب أن تكون أحواله موافقة لأحوال العالم الكبير.

.الفائدة الرابعة عشرة: الحمد لله إخبار عن كون الحمد حقًا لله وملكًا له:

من الناس من قال: تقدير الكلام قولوا الحمد لله، وهذا عندي ضعيف، لأن الإضمار إنما يصار إليه ليصح الكلام، وهذا الإضمار يوجب فساد الكلام والذي يدل عليه وجوه: الأول: أن قوله الحمد لله إخبار عن كون الحمد حقًا له وملكًا له، وهذا كلام تام في نفسه، فلا حاجة إلى الإضمار.
الثاني: أن قوله الحمد لله يدل على كونه تعالى مستحقًا للحمد بحسب ذاته وبحسب أفعاله سواء حمدوه أو لم يحمدوه، لأن ما بالذات أعلى وأجل مما بالغير.
الثالث: ذكروا مسألة في الواقعات وهي أنه لا ينبغي للوالد أن يقول لولده إعمل كذا وكذا، لأنه يجوز أن لا يمتثل أمره فيأثم، بل يقول إن كذا وكذا يجب أن يفعل، ثم إذا كان الولد كريمًا فإنه يجيبه ويطيعه، وإن كان عاقا لم يشافهه بالرد، فيكون إثمه أقل، فكذلك هاهنا قال الله تعالى {الحمد لله} فمن كان مطيعًا حمده، ومن كان عاصيًا كان إثمه أقل.

.الفائدة الخامسة عشرة: تمسك الجبرية والقدرية بقوله: الحمد لله:

تمسكت الجبرية والقدرية بقوله {الحمد لله} أما الجبرية فقد تمسكوا به من وجوه: الأول: أن كل من كان فعله أشرف وأكمل وكانت النعمة الصادرة عنه أعلى وأفضل كان استحقاقه للحمد أكثر، ولا شك أن أشرف المخلوقات هو الإيمان، فلو كان الإيمان فعلًا للعبد لكان استحقاق العبد للحمد أولى وأجل من استحقاق الله له ولما لم يكن كذلك علمنا أن الإيمان حصل بخلق الله لا بخلق العبد، الثاني: أجمعت الأمة على قولهم الحمد لله على نعمة الإيمان لو كان الإيمان فعلًا للعبد وما كان فعلًا لله لكان قولهم الحمد لله على نعمة الإيمان باطلًا فإن حمد الفاعل على ما لا يكون فعلًا له باطن قبيح لقوله تعالى: {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} [آل عمران: 188] الثالث: أنا قد دللنا على أن قوله {الحمد لله} يدل ظاهرة على أن كل الحمد لله وأنه ليس لغير الله حمد أصلًا وإنما يكون كل الحمد لله لو كان كل النعم من الله والإيمان أفضل النعم فوجب أن يكون الإيمان من الله، الرابع: أن قوله {الحمد لله} مدح منه لنفسه ومدح النفس مستقبح فيما بين الخلق، فلما بدأ كتابه بمدح النفس دل ذلك على أن حاله بخلاف حال الخلق وأنه يحسن من الله ما يقبح من الخلق، وذلك يدل على أنه تعالى مقدس عن أن تقاس أفعاله على أفعال الخلق، فقد تقبح أشياء من العباد ولا تقبح تلك الأشياء من الله تعالى، وهذا يهدم أصول الاعتزال بالكلية.
والخامس: إن عند المعتزلة أفعاله تعالى يجب أن تكون حسنة ويجب أن تكون لها صفة زائدة على الحسن، وإلا كانت عبثًا، وذلك في حقه محال، والزائدة على الحسن إما أن تكون واجبة، وإما أن تكون من باب التفضل: أما الواجب فهو مثل إيصال الثواب والعوض إلى المكلفين، وأما الذي يكون من باب التفضل فهو مثل أنه يزيد على قدر الواجب على سبيل الإحسان، فنقول: هذا يقدح في كونه تعالى مستحقًا للحمد، ويبطل صحة قولنا الحمد لله، وتقريره أن نقول: أما أداء الواجبات فإنه لا يفيد استحقاق الحمد ألا ترى أن من كان له على غيره دين دينار فأداه فإنه لا يستحق الحمد، فلو وجب على الله فعل لكان ذلك الفعل مخلصًا له عن الذم ولا يوجب استحقاقه للحمد، وأما فعل التفضل فعند الخصم أنه يستفيد بذلك مزيد حمد لأنه لو لم يصدر عنه ذلك الفعل لما حصل له ذلك الحمد، وإذا كان كذلك كانا ناقصًا لذاته مستكملًا بغيره، وذلك يمنع من كونه تعالى مستحقًا للحمد والمدح.
السادس: قوله {الحمد لله} يدل على أنه تعالى محمود، فنقول: استحقاقه الحمد والمدح إما أن يكون أمرًا ثابتًا له لذاته أو ليس ثابتًا له لذاته، فإن كان الأول امتنع أن يكون شيء من الأفعال موجبًا له استحقاق المدح، لأن ما ثبت لذاته امتنع ثبوته لغيره، وامتنع أيضًا أن يكون شيء من الأفعال موجبًا له استحقاق الذم، لأن ما ثبت لذاته امتنع ارتفاعه بسبب غيره، وإذا كان كذلك لم يتقرر في حقه تعالى وجوب شيء عليه، فوجب أن لا يجب للعباد عليه شيء من الأعواض والثواب، وذلك يهدم أصول المعتزلة، وأما القسم الثاني وهو أن يكون استحقاق الحمد لله ليس ثابتًا له لذاته فنقول: فيلزم أن يكون ناقصًا لذاته مستكملًا بغيره، وذلك على الله محال أما المعتزلة فقالوا: إن قوله {الحمد لله} لا يتم إلا على قولنا لأن المستحق للحمد على الإطلاق هو الذي لا قبيح في فعله، ولا جور في أقضيته، ولا ظلم في أحكامه، وعندنا أن الله تعالى كذلك، فكان مستحقًا لأعظم المحامد والمدائح، أما على مذهب الجبرية لا قبيح إلا وهو فعله، ولا جور إلا وهو حكمه، ولا عبث إلا وهو صنعه، لأنه يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه، ويؤلم الحيوانات من غير أن يعوضها، فكيف يعقل على هذا التقدير كونه مستحقًا للحمد؟ وأيضًا فذلك الحمد الذي يستحقه الله تعالى بسبب الإلهية إما أن يستحقه على العبد، أو على نفسه، فإن كان الأول وجب كون العبد قادرًا على الفعل، وذلك يبطل القول بالجبر وإن كان الثاني كان معناه أن الله يجب عليه أن يحمد نفسه، وذلك باطل، قالوا: فثبت أن القول ب {الحمد لله} لا يصح إلا على قولنا.
شكر المنعم:

.الفائدة السادسة عشرة: وجوب الشكر ثابت بالعقل أو بالسمع؟

اختلفوا في أن وجوب الشكر ثابت بالعقل أو بالسمع: من الناس من قال: إنه ثابت بالسمع، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ولقوله تعالى: {رُّسُلًا مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّة بَعْدَ الرسل} [النساء: 165] ومنهم من قال إنه ثابت قبل مجيء الشرع وبعد مجيئه على الإطلاق، والدليل عليه قوله تعالى: {الحمد للَّهِ} وبيانه من وجوه: الأول: أن قوله {الحمد لله} يدل أن هذا الحمد حقه وملكه على الإطلاق، وذلك يدل على ثبوت هذا الاستحقاق قبل مجيء الشرع.
الثاني: أنه تعالى قال: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} [الفاتحة: 2] وقد ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللًا بذلك الوصف، فهاهنا أثبت الحمد لنفسه ووصف نفسه بكونه تعالى ربًا للعالمين رحمانًا رحيمًا بهم، مالكًا لعاقبة أمرهم في القيامة، فهذا يدل على أن استحقاق الحمد إنما يحصل لكونه تعالى مربيًا لهم رحمانًا رحيمًا بهم، وإذا كان كذلك ثبت أن استحقاق الحمد ثابت لله تعالى في كل الأوقات سواء كان قبل مجيء النبي أو بعده.
معنى الحمد:

.الفائدة السابعة عشرة: حقيقة الحمد وماهيته:

علينا أن نبحث عن حقيقة الحمد وماهيته فنقول: تحميد الله تعالى ليس عبارة عن قولنا الحمد لله، لأن قولنا الحمد لله إخبار عن حصول الحمد، والأخبار عن الشيء مغاير للمخبر عنه، فوجب أن يكون تحميد الله مغايرًا لقولنا الحمد لله، فنقول: حمد المنعم عبارة عن كل فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعمًا.
وذلك الفعل إما أن يكون فعل القلب، أو فعل اللسان، أو فعل الجوارح، أما فعل القلب فهو أن يعتقد فيه كونه موصوفًا بصفات الكمال والإجلال، وأما فعل اللسان فهو أن يذكر ألفاظًا دالة على كونه موصوفًا بصفات الكمال.
وأما فعل الجوارح فهو أن يأتي بأفعال دالة على كون ذلك المنعم موصوفًا بصفات الكمال والإجلال، فهذا هو المراد من الحمد، واعلم أن أهل العلم افترقوا في هذا المقام فريقين: الفريق الأول: الذين قالوا أنه لا يجوز أن يأمر الله عبيده بأن يحمدوه، واحتجوا عليه بوجوه: الأول: أن ذلك التحميد إما أن يكون بناءً على إنعام وصل إليهم أولًا وبناءً عليه، فالأول باطل، لأن هذا يقتضي أنه تعالى طلب منهم على إنعامه جزاء ومكافأة، وذلك يقدح في كمال الكرم، فإن الكريم إذا أنعم لم يطلب المكافأة، وأما الثاني فهو إتعاب للغير ابتداء، وذلك يوجب الظلم.
الثاني: قالوا الاشتغال بهذا الحمد متعب للحامد وغير نافع للمحمود، لأنه كامل لذاته، والكامل لذاته يستحيل أن يستكمل بغيره، فثبت أن الاشتغال بهذا التحميد عبث وضرر، فوجب أن لا يكون مشروعًا.
الثالث: أن معنى الإيجاب هو أنه لو لم يفعل لاستحق العقاب، فإيجاب حمد الله تعالى معناه أنه قال لو لم تشتغل بهذا الحمد لعاقبتك، وهذا الحمد لا نفع له في حق الله، فكان معناه أن هذا الفعل لا فائدة فيه لأحد، ولو تركته لعاقبتك أبد الآباد، وهذا لا يليق بالحكم الكريم.
الفريق الثاني: قالوا الاشتغال بحمد الله سوء أدب من وجوه: الأول: أنه يجري مجرى مقابلة إحسان الله بذلك الشكر القليل، والثاني: أن الاشتغال بالشكر لا يتأتى إلا مع استحضار تلك النعم في القلب، واشتغال القلب بالنعم يمنعه من الاستغراق في معرفة المنعم.
الثالث: أن الثناء على الله تعالى عند وجدان النعمة يدل على أنه إنما أثنى عليه لأجل الفوز بتلك النعم، وذلك يدل على أن مقصوده من العبادة والحمد والثناء الفوز بتلك النعم، وهذا الرجل في الحقيقة معبوده ومطلوبه إنما هو تلك النعمة وحظ النفس، وذلك مقام نازل، والله أعلم. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {الحَمْدُ لِلِّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. أما: {الحمد لله} فهو الثناء على المحمود بجميل صفاته وأفعاله، والشكرُ الثناء عليه بإنعامه، فكلُّ شكرٍ حمد، وليسَ كلُّ حمدٍ شكرًا، فهذا فرقُ ما بين الحمد والشكر، ولذلك جاز أن يَحْمِدَ الله تعالى نفسه، ولم يَجُزْ أن يشكرها.
فأما الفرق بين الحمد والمدح، فهو أن الحمد لا يستحق إلا على فعلٍ حسن، والمدح قد يكون على فعل وغير فعل، فكلُّ حمدٍ مدح وليْسَ كل مدحٍ حمدًا، ولهذا جاز أن يمدح الله تعالى على صفته، بأنه عالم قادر، ولم يجز أن يحمد به، لأن العلم والقدرة من صفات ذاته، لا من صفات أفعاله، ويجوز أن يمدح ويحمد على صفته، بأنه خالق رازق لأن الخلق والرزق من صفات فعله لا من صفات ذاته. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله سبحانه وتعالى: {الحمد لِلَّهِ} روى أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخُدْرِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال العبد {الحمد لله} قال صدق عبدي الحمد لي» وروى مسلم عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها» وقال الحسن: ما مِن نعمة إلا والحمد لله أفضل منها.
وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أَخذ» وفي نوادر الأصول عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن الدنيا كلها بحذافيرها بيد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله لكانت الحمد لله أفضلَ من ذلك» قال أبو عبد اللَّه: معناه عندنا أنه قد أُعطي الدنيا، ثم أُعطي على أثرها هذه الكلمة حتى نطق بها، فكانت هذه الكلمة أفضل من الدنيا كلها، لأن الدنيا فانية والكلمة باقية، هي من الباقيات الصالحات؛ قال الله تعالى: {والباقيات الصالحات خَيْر عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْر أَمَلًا} [الكهف: 46].
وقيل في بعض الروايات: لكان ما أَعطى أكثر مما أخذ.
فصير الكلمة إعطاءً من العبد، والدنيا أخذًا من الله؛ فهذا في التدبير.
كذاك يجري في الكلام أن هذه الكلمة من العبد، والدنيا من الله؛ وكلاهما من الله في الأصل، الدنيا منه والكلمة منه؛ أعطاه الدنيا فأغناه، وأعطاه الكلمة فشرفه بها في الآخرة.
وروى ابن ماجه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّثهم: «أن عبدًا من عباد الله قال يا رَب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فَعَضَلَتْ بالمَلَكَيْن فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى السماء وقالا يا رَبَّنا إن عبدك قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها قال الله عزّ وجلّ وهو أعلم بما قال عبده ماذا قال عبدي قالا يا ربّ إنه قد قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فقال الله لهما اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجْزِيَهُ بها» قال أهل اللغة: أعضل الأمر: اشتد واستغلق؛ والمعضّلات بتشديد الضاد: الشدائد.
وعضَّلت المرأة والشاة: إذا نَشِب ولدها فلم يسهل مخرجه؛ بتشديد الضاد أيضًا؛ فعلى هذا يكون: أَعْضَلت الملكين أو عَضَّلَت الملكين بغير ياء. والله أعلم.
ورُوي عن مسلم عن أبي مالك الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطُّهور شَطْرُ الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض» وذكر الحديث.